ذهبت أفكاري يوما ً إلى سؤال محيّر لا بد أنه قد واجهك في إحدى مواقف الحياة، كيف تعطي حرية كاملة لشخص، لأنك تهتم به ولا تريد أن تفرض عليه نفسك؟ وكيف تقف وتنظر وهو يأخذ الخيار الخطأ دون أن تنتهك حقه في تقرير مصيره ودون أن تفرض عليه رأيك وتقمعه؟ هذه المشكلة يواجهها كل أب حديث وكل مدير شركة وكل زوج وزوجة وكل من له سلطة على غيره من البشر. ونرى في كثير من دول العالم كيف أن الشعوب تناضل وتكافح من أجل أن يكون لها صوت في مصيرها وفي القرارات التي تؤثر مباشرة على حياتها. وتقف الحكومات والمؤسسات أحياناً حائرة أمام خيار إما أن تسحب الحرية وتفرض القرارات، وإما أن تعطي الحرية وتتبع الرأي العام الذي قد يسسب مشاكل في بعض الأحيان نتيحة القرارات الشعبوية المؤذية. فما هو الحل؟
هذه المعضلة ليست معضلة اليوم، بل هي معضلة تعامل معها الرب الخالق منذ البداية. خلق الرب مخلوقات تبدو بلا حرية أو ذات حرية محدودة جداً فتسيرغرائزياً وتفعل ما هي مبرمجة أن تفعله. وخلق أيضاً مخلوقات أعطاها الحرية الكاملة لتقرير المصير واتخاذ القرارات التي قد تأتي عليها بالخير أو بالهلاك. ومن المخلوقات الكونية التي نقرأ عنها أنها تتمتع بهذه الحرية نجد الملائكة والبشر، وربما هناك مخلوقات أخرى، لأن الملائكة هي المخلوقات الوحيدة من خارج كوكبنا التي احتكت بنا وتواصلت معنا وكُتب عنها أن لها حرية الخيار.
يخبرنا الكتاب المقدس أن الرب الخالق منذ بداية الحياة البشرية أعطى الإنسان حرية اختيار مصيره وكان يرغب، كأي أب، أن يأخذ الإنسان الخيار الصحيح، ولكن الإنسان اختار أن يجرب الأمر بنفسه غير مصدق أن الهلاك سيأتي نتيجة عصيانه لنصيحة الخالق له. وبسبب الخطوة الحرة التي اتخذها الإنسان جلب الموت على جنسه وأدى إلى فصل ضروري بينه وبين الخالق بسبب دخول الفساد إلى الطبيعة البشرية التي أصبحت ساقطة، عندما تقاس بمقياسي العدل والمحبة. فتدخل الخالق وبدأ في تفعيل الحل الذي كان قد أعده مسبقاً في حال اتخذ الإنسان الخيار الخطأ ووقع في مأزقِ نتيجة قراره.
يخبرنا الكتاب المقدس الكثير عن صفات الرب الخالق، ومن هذه الصفات أنه حق ونور وحياة وعدالة ومحبة وغير ذلك من الصفات التي تدل على الكمال الإيجابي، الذي يرجوه الإنسان ويسعد بوجوده في حياته. وإن كان هذا يدل على شيء، فإنه يدل على مدى خسارة البشر للتمتع بالوجود في هذا الكمال الدائم. فالصراعات التي نعاني منها كأفراد ومجتمعات ودول كلها تأتي من قرارات ناتجة عن غياب حالة الكمال التي خلقنا الرب لنتمتع بها لتواجدنا في حضوره.
ونقرأ ان الرب الخالق لا يستطيع أن يغير ذاته لأنه لا ينقصه شيء، فكيف تزيد على ما هو كامل؟ ولذا كونه إله محب، لم يترك البشر يهلكون بلا حل أو وسيلة للنجاة بل تدخّل لكي يساعدهم دون المساس بحرياتهم أو السيطرة على قراراتهم. فالمحبة لا تسيطر ولا تتهكم ولا تفرض نفسها بل تتأنى وترفق، وهي لا تقبح ولا تطلب ما لنفسها بل تحتمل وترجو وتصبر على كل شيء، كما نقرأ في وحي الرب، و لا تفرح بالإثم، بل تفرح بالحق (رسالة كورنثوس الأولى ١٣: ٧). إذا الحق هو سبب فرح للمحبة ولا بد من وجود الحق لتكتمل المحبة. وهنا نرى الحقيقة المهمة جداً في حل هذه المعضلة ألا وهي أهمية الحق والعدل في كمال المحبة. لذلك، عندما يتساءل البعض عن حقيقة محبة الخالق للبشر ما دام سيرسل منهم الكثير في النهاية لجهنم، نجدهم يتغاضون عن صفات المحبة الكاملة وصفات الخالق الكاملة التي من ضمنها العدل الكامل والتام لكي يصلوا إلى مأربهم. ولهذا السؤال عدة إجابات لا بد من التوقف عند بعضها هنا علّها تعطينا ومضة نور للإجابة عن سؤالنا:
١- المحبة لا تطلب ما لنفسها ولذا ففرض الرأي عنوة على الآخر دون إعطاء الآخر حرية القرار ليس محبة. وإعطاء حرية القرار تأتي معه مسؤولية تحمل نتيجة القرار. ولذلك فالحرية لا تخلي من المسؤولية ، فيجب الكلام دائماً عن الحرية المسؤولة وليس الحرية العشوائية التي تحرم الآخرين حرياتهم وتنتهك حرماتهم. وفي الخالق لنا في هذا الأمر أفضل مثال، فالرب لم يحرمنا من حرية قرارنا ولا من تحمل نتيجته، لأن سحب نتيجة القرار هو بحد ذاته انتهاك للحرية وضد عدل الرب الكامل، فما جدوى الحرية ان حرمنا من اختبار ثمارها، صالحة ً كانت أم طالحة؟ وهنا يجب لفت النظر في الإجابة عن السؤال إلى أن الخالق لا يرسل الناس إلى الجحيم عنوة بل هم الذين يسيرون إليه بحرية قرارهم وقدرتهم على تقرير المصير، وهي حرية غير مقيدة.
٢- المحبة لا تقبح، ونرى في الكتاب أن الخالق لم يصنع بحيرة النار من أجل البشر بل مكان سكن أبدي في عزلة عنه للملائكة الذين عصوا، وهم مخلوقات لها خواصها مصنوعة من نور. ولكن البشر الذين يختارون أن يملك عليهم الشيطان بدلا من الخالق سيسمح لهم الخالق بأن يعيشوا أبديتهم كما يرغبون دون حرمانهم من حريتهم او السيطرة على قرارهم. ومع أن الخالق كان بإمكانه إزالة الكل من الوجود، إلا إنه إله مسؤول ويحترم رغبات خليقته ولن يحرمهم من الوجود لمجرد أنهم لا يريدونه أن يملك عليهم ويرغبون في الشيطان ملكاً. لقد منح الشيطان مكاناً خاصاً له ولاتباعه من الملائكة يليق بطبيعتهم بعيداً عن محضر الخالق، والبشر الذين يحبون أفعال الشيطان ويريدون أن يسكنوا معه لن يحرموا من الحرية في القيام بذلك، والقرار يبقى قرارهم والخيار خيارهم.
٣- المحبة تتأنى وترفق، وهذا بالفعل ما فعله الخالق. فقد كان بوسع الرب أن يرسل الإنسان إلى الجحيم من البداية إلا أنه وضعنا هنا لمدة مؤقتة لنا الخيار فيها بتقرير مصيرنا. والرب لم يتركنا يتامى نتخبط في ضياع ودون حل، بل تدخل هو بذاته وفعل ما لا يمكن تصديقه، وهو أنه أتى إلى العالم كبشري مختبراً حياة البشر ودفع ثمن خطيتهم بنفسه لكي يكون الحق والعدالة قد أخذوا مجراهم وتكون المحبة قد اكتملت، ولكن أيضاً دون انتهاك حرية البشر في تقرير المصير. وكون الإنسان لم يكن قادراً على العودة كما هو إلى ما قبل نتيجة قراره، تدخل الخالق بنفسه لكي يعطيه الدواء الذي لم يخطر على بال إنسان. واصبح في متناول الإنسان علاجاً يختاره له نتيجة جيدة منشودة وسهلة المنال. وكان في هذا الدواء إلتقاء المحبة والحق والحرية معاً دون المساس بهذه القيم الضرورية لحياة الإنسان.
هذه بعض الخواطر التي وددت مشاركتك بها وربما تثريني بالمزيد من الأفكار التي تجيب عن السؤال الذي يطرح دائماً، لماذا يرسل الرب المحب الناس إلى الجحيم؟ والإجابة عندي حسب كلمته هي أنه لا يرسل البشر بل يقول لهم تعالوا إلي ولكنه لن يفرض عليهم ذاته، بل هم لا يريدونه ويريدون غيره أن يملك عليهم فسمح لهم بما يريدون. فهل المحبة أن يفرض الواحد على الآخر نفسه بإكراه وغصب؟ ومع ذلك فإن الرب جاء إلى عالمنا واختبر ما نختبره وتمم عدله بدفع ثمن خطيتنا نحوه ونحو بعضنا البعض، لأنه ليس من العدل أن يقتل أحد فرد من عائلتك ويقف أمام الرب دون أن يدفع الثمن. وما هو ثمن النفس؟ انه النفس. لذلك الرب نفسه دفع الثمن عن أنفس الإثنين فلم يعد هناك سؤال حول عدالة غفرانه للجميع. وفي دفعه الثمن أعطى الرب الإنسان فرصة جديدة لتصليح مصيره ولكن أيضاً دون انتهاك حريته، لذلك نراه نادى وقال ان عطش أحد فليقبل إلي ويشرب (يوحنا ٧: ٣٧). أنت حُر والخالق أعطاك هذه الحرية أن تشرب من الماء الحي أو تحفر لنفسك آباراً مشققة لا تضبط ماءً. فاذهب أينما شئت، ولكنه يدعوك تعال إلي! .